Please ensure Javascript is enabled for purposes of website accessibility

الحلقة الأولى – بودكاست المتحف الحي: حوار مع أرينا بوكوفا

تاريخ النشر

16 January 2022

الأوسمة

Podcast

النص

أهلاً وسهلاً بكم في المتحف الحي "the Living Museum"، وأولى حلقات سلسلة الحوارات المستوحاة من العلا الواحة الثقافية التي تزخر بالمناظر الطبيعية الخلابة والمواقع الأثرية المميزة التي يحتضنها نظام بيئي صحراوي فريد من النباتات والحيوانات التي تعيش في كنف هذا المتحف الحي للحضارات الذي يسرد قصص الماضي ويلهم سطور أحداث المستقبل.

ومنذ إطلاق الهيئة الملكية لمحافظة العلا في عام 2017، شهدت المنطقة تحولاً جذرياً جعلها سلط الضوء على ما تزخر به من تاريخ وإرث عريق.
في هذه السلسلة، ندعوكم إلى الانضمام إلينا للاستماع إلى بعض الحوارات العميقة والغنية بالمعلومات والتي نخوض غمارها مع نخبة من الخبراء بمشروع العلا. وفي أولى حلقاتنا يسرنا أن نلتقي، إحدى الشخصيات البارزة في المسرح الثقافي العالمي عضوة المجلس الاستشاري في الهيئة الملكية لمحافظة العُلا والمديرة العامة السابقة لمنظمة اليونسكو؛ السيدة أرينا بوكوفا.

من الصعب تلخيص إنجازات السيدة أرينا بوكوفا التي تمتد لعقود من النجاح والتي توجت مسيرتها السياسية الناجحة في موطنها بلغاريا. ولكنّ بإيجاز، لا يمكن أن نغفل أنها شغلت منصب السفير لدى كل من فرنسا وموناكو، وكانت المندوبة الدائمة لبلغاريا لدى اليونيسكو، وتم انتخابها في نوفمبر 2009 لتشغل منصب المدير العام التاسع لليونيسكو، لتكون بذلك أول امرأة تترأس اليونيسكو، وأول مدير عام من جنوب شرق أوروبا، حيث شغلت هذا المنصب حتى عام 2017.
أثناء خدمتها مع منظمة اليونيسكو، أدارت السيدة بوكوفا مجموعة كبيرة من القضايا، التي ستحدثنا عنها. وباختصار فقد نجحت في التدخل في الأزمات المتعلقة بالحفاظ على أهم المواقع الأثرية في العراق، وأفغانستان ومالي والعديد من المواقع الأخرى والعمل على حمايتها.

السيدة إيرينا بوكوفا ليست غريبة عن المملكة العربية السعودية ومحافظة العلا حيث تعود علاقتها بهما إلى سنوات خلت، وسنتطرق في هذا الحوار إلى ذكريات السيدة بوكوفا مع المنقطة المنطقة، وشغفها بالتراث، وأهميته لنا جميعا.

هل هناك إنجاز محدد تفخرين به من فترة عملك في اليونسكو؟

نعم، بالتأكيد. يصعب تحديد انجاز واحد بحد ذاته لأننا مررنا بأوقات صعبة وتغلبنا على الكثير من الأحداث السيئة. لكن أآعتقد بأن الوقت الذي استثمرناه في التواصل مع القادة السياسيين لحشدهم نحو الالتفاف حول أهمية التراث، والتركيز على الرابط الهام بين حماية التراث والأمن والسلام كان أمر بالغ الأهمية.
اعتقد أن اعتماد مجلس الأمن في مارس عام 2017 لقرار 2347 كان تاريخياً، إذ إنه أقر بأهمية حماية التراث، وأن التدمير المتعمد للتراث يشكل خطراً على السلام والأمن، ونص هذا القرار أيضاً بعدم شرعية التجارة بالقطع الفنية التاريخية والتي تشكل خطراً بالغاً. ويمكن وضع كل هذا في السياق الأكبر المتمثل بحماية التنوع. إذ أن التنوع في الحوار الثقافي والتراث مهم جداً في هذا العالم المترابط والمليء بالعولمة. الأمر الذي شكّل علامة فارقة في السعي نحو إيجاد أراضي مشتركة للعيش مع الآخر.
وأنا فخورة جداً بذلك، فعند عودتنا إلى الفترة التي بدأت فيها عمليات تدمير التراث، مثل العمليات المتطرفة في مالي بمحاولة حرق المخطوطات الغنية بأفكار الباحثين والعلماء المسلمين في العديد من المجالات. رأيت حينها أن هناك خطراً قادم يختلف عن ما رأيناه من قبل. وما سبق تلك الحادثة عندما قامت جماعة طالبان بتفجير قنبلة في الموقع البوذي، اعتقدنا جميعاً أن هذا الفعل غريب وغير إنساني ومفزع لدرجة أنه لن يحصل مرة أخرى، لكن بعد ذلك حصلت حادثة مالي. فظننت في ذلك الوقت أنه لو اعتبرنا تدمير التراث جريمة حرب، فإنه يجب في هذه الحالة رفع الحادثة للقضاء، وبالتالي تواصلت مع المحكمة الجنائية الدولية وبدأنا مع رئيسة هيئة الادعاء، مدام بنسودا، النقاش حول كيفية إمكانية القيام بذلك. وشكّلنا فرقنا القانونية، وفي شهر سبتمبر عام 2016 كان لدينا أول مدان في التاريخ. أصبح هناك مدان بجريمة دولية سببها تدمير التراث.

وأعتقد أن هذه الرسالة كانت ذات أهمية كبيرة. علماً أن المتهم اعترف بأفعاله وتأثر كثيراً بالإدانة لأنه برأيي لم يفهم ما يحصل في ذلك الوقت، لكن الرسالة قد وصلت بالفعل. ثم أتت داعش إلى سوريا والعراق وبدأنا بمشاهدة كل هذه الأفعال القبيحة التي تحصل، ومنها تدمير متحف الموصل الذي عُرِض على يوتيوب.
وما زلت أذكر بوضوح ذلك اليوم في مكتبي عندما جاء أحد المستشارين وقال لي يجب أن أرى أمراً بشعاً، فذهبت معه إلى مكتبه وشاهدنا فيديو، إلا أنني إلى هذه اللحظة لم أتابع الفيلم الوثائقي كاملاً لأنه كان سيئاً جداً. وقمت بعد ذلك مباشرة بعقد مؤتمر صحفي صرحت فيه بأنني أريد الذهاب إلى العراق، وذهبت بعدها إلى بغداد وبدأنا العمل للتوصل إلى طرق حماية التراث. وبدأنا العديد من المبادرات بعد قرار عام 2017.

عندما بدأت باستذكار عمليات التدمير هذه والتشديد على نقطة عدم وجوب الاختيار بين الناس والتراث، وأن هذا الأمر هو ضمن الجانب الإنساني ولا يختلف عن حماية الأرواح، هناك من انتقدني حينها لأن الكارثة الإنسانية كانت كبيرة جداً في ذلك الوقت. لكنني في نهاية الأمر لاحظت التغير في التفكير وزيادة عدد الناس الذين تقبّلوا الأمر وأصبحوا مرتبطين به. كيف لا ونحن نعلم أن هذه المنطقة مهد الحضارة الإنسانية، وبدأ الناس أيضاً بمعرفة ذلك وأن التراث يعبر عن هويتهم وتاريخهم، وهو ليس فقط تاريخ العراق أو سوريا أو المجتمعات الموجودة في تدمر، بل هو يعبّر عن جزء من الإنسانية. وما نوع هذه الإنسانية إذا سمحنا لهذا التراث بأن يتدمر؟
ثم حدثت هناك فترة أسميتها "التطهير الثقافي"، وبعدها أصبح الناس يشعرون بالغضب تجاه السياسيين لأنهم يتبنون هذا التفكير. ورأينا عمليات النهب، ثم بدأنا بتتبّع هذه الأنشطة الإجرامية حتى وصلنا إلى بناء شيء أكبر من التحالف، بل حركة عالمية لحماية التراث.

النقطة التي ذكرتها مهمة جداً بأن اعتراف الناس حول العالم بأن هذه الكارثة ليست محلية فحسب، بل أن هذه المسألة جوهرية للإنسانية جمعاء. وأتفق أن الناس قد يوجهون أصابع الاتهام أولاً ليقولون أن هناك حالة طارئة أكثر إلحاحاً وأكثر أهمية من التراث. ولكن كما تفضلتي بأن هذا التراث يشكل نسيجنا المشترك، وهو ما يجمع الإنسانية مع بعضها حول العالم، ودمار هذا التراث هو أمر كارثي فيما يتعلق بالنمو والفهم المشترك. والمثير للاهتمام أيضاً أن هذا الأمر استغرق طول فترة منصبك كمديرة عامة لتصنيف هذه الجرائم ضد التراث ضمن القانون.

أعتقد أن التاريخ الإنساني يشير إلينا ببعض الدروس حول كيفية تعاملنا مع بعض الأحداث. فأنا دائماً ما أقول أن التراث يتعدى كونه طوباً وحجارة، التراث يعبر عن الهوية وعن الأشخاص نفسهم. إنه يمثل البراعة والمهارة والجانب الجمالي لدى الناس والثقافات التي بُني فيها التراث. ومن جانبٍ آخر نعلم أنه لا يوجد ثقافة واحدة بحد ذاتها، إذ إن كافة المواقع الثقافية الموجودة على قائمة التراث العالمي تؤثر على بعضها البعض، ومن الجدير بالذكر أن معظم المواقع التراثية مرتبطة بتاريخٍ واحد وهي تشكل جزءاً من المراحل العديدة فيه. وعندما ذهبت إلى مجلس الأمن عند اعتماد القرار 2347 للحديث عن الرابط بين تدمير التراث والخطر على الأمن والسلام، كنت أفكر حينها في الطريقة المناسبة لافتتاح حديثي وكيف يمكنني إيصال الرسالة إلى السياسيين وما هو الدرس الذي تعلمناه من التاريخ.

واقتبست حديث شاعر ومفكر ألماني رائع بأنك إذا بدأت بحرق الكتب، سينتهي بك الأمر بحرق الناس. وأعتقد أنه لمن المهم عدم الاختيار ما بين الناس والتراث، فهما دائماً معاً ويشكلان أمراً واحداً. وأريد أيضاً القول أن علينا إيقاف حدوث هذا الأمر، وعلينا تعليم الشباب بأهمية التنوع والتراث. وأعتقد أن مفهوم التراث في العالم متغيّر على الدوام. وأن فكرة الأكثر إنسانية التي قدمتها الأمم المتحدة كانت بعد الحرب العالمية الثانية
لا يمكننا تخيل كيف ستكون أيامنا بدون وجود هذا التراث الرائع، هل يمكن تخيل عدم معرفتنا بهذه الآثار الجميلة. إذ لدينا "كتاب مفتوح" من الإنسانية والتاريخ والتنوع؛ لدينا المساجد والكنائس والمعابد البوذية واليهودية ومختلف أنواع المباني والمجمعات التي تمثل الإبداع الإنساني.

ولدينا أيضاً مختلف الطرق والمسارات، منها طريق الإنكا الموجود في أمريكا اللاتينية الذي يبدأ من كولومبيا وينتهي في التشيلي. وهناك أيضاً طريق الحرير الرائع الذي يربط مختلف الثقافات من كانشين إلى فينس. وهناك أيضاً طريق البخور الذي يشكل مثالاً رائعاً. يوجد رسالة إنسانية عميقة في التراث العالمي، وهنا تأتي أهمية عقد اليونسكو لاتفاقية التراث العالمي في 1972 الذي لا يزال إلى حد الآن أساس كافة الأنشطة الإيجابية.

يمكن تلخيص هذا الحافز الذي تطرقتي إليه في أهداف يوم التراث العالمي.

نعم، أعتقد أن وجود هذا اليوم هو أمر رائع لأنه يجعلنا نفكر بأهمية التراث. أطلِق هذا اليوم قبل أكثر من 40 عاماً في عام 1982 من قبل المجلس العالمي للمتاحف، وهو أكبر شبكة من الخبراء العالميين في حماية التراث وشريك قوي لليونسكو، وهو أحد المجالس الاستشارية وفقاً لمؤتمر قائمة التراث العالمي. وبعد إطلاق المجلس العالمي للمتاحف لهذا اليوم، حظي بدعم اليونسكو الشديد، ويُحتفَل به كل عامٍ. وما يجعل هذا اليوم مميزاً هو التركيز المختلف كل سنة في هذا اليوم، إذ إن هناك العديد من المواضيع التي يمكن تناولها سواء عن السياحة أو ضمن المجتمعات المحلية.

والموضوع الذي سنتطرق له في هذا العام هو مشاركة رسالة هامة جداً في عالمنا المضطرب الذي نرى فيه للأسف زيادة الكراهية والتطرف وقلة التعاطف تجاه المهاجرين مثلاً أو اللاجئين.

وأعتقد أن مفهوم المشاركة مهم جداً، فيجب أن نعرف كيفية مشاركة تراثنا الذي لا يعرف الحدود الجغرافية أو السياسية، ومن الواجب على الكثير من الدول مشاركة تراثها. ويعبر التراث أحياناً عن عدة ثقافات اختلطت مع بعضها البعض ليصبح تراثها بهذا الشكل. لذلك تمثل المشاركة بادرة من الاحترام وهي برأيي مهمة جداً.

بكل تأكيد، المشاركة جوهرية من أجل النمو والتفاهم المتبادل وسد الفجوات الثقافية، لكن على الجانب العملي، أود معرفة الاستراتيجيات التي تساهمين بترويجها لزيادة المشاركة بين الثقافات.

يتعلق الأمر بالتعليم والشباب بصورة أساسية. فمن المهم إدخال المعرفة التاريخية والتراثية في المناهج، ولا أقصد هنا تراث كل دولة على حدة، بل أقصد التراث الخاص بالغير أيضاً.

يأتي بعد ذلك دور الاستراتيجيات العامة المعنية بحماية التراث الذي لا يمكن حصره بجزء واحد من الدولة، ولا ينتمي بالضرورة إلى الثقافة الحالية أو الديانة المتبعة. إذ لا ينبغي علينا إهماله لأنه ينتمي لفترة مختلفة من تاريخ البلد أو المنطقة. هذه رسالة قوية جداً.
فليس من قبيل الصدفة أن المجلس الدولي للمتاحف يمر الآن بمرحلة من النقاش النشط والمستمر حول الدور الذي تلعبه المتاحف في يومنا هذا. وحتى الآن، وبعد أكثر من سنة على بدء هذا النقاش، لم يتم الاتفاق على تعريف حديث للمتاحف حتى الآن. هذا النقاش هو أمر مهم للغاية، فالمتاحف تلعب دوراً مهماً نظراً لما تتمتع به من دور عالمي، ولدورها في مساعدة الدول على استعادة الممتلكات التي تمت سرقتها بعد الاستعمار.

بالتأكيد، نحن نشهد الآن زيادة في انتشار المتاحف في مناطق مثل الإمارات على سبيل المثال، حيث تنتقل هذه المتاحف الغربية الضخمة إلى الشرق الأوسط وتمزج مقتنياتها مع الأعمال الفنية والتحف الشرق أوسطية. كما يتم الترويج إلى هذه المتاحف كمحاور للتعلم والتعليم، بينما في الغرب، وفي بريطانيا على وجه الخصوص، تواجه المتاحف ظروفاً صعبة بسبب التخفيضات الحكومية، وضعف التمويل، مما يزيد من الحاجة إلى التمويل الخاص. وبالنظر إلى الفرق بين الظروف التي تمر بها المتاحف هنا وهناك وإلى الدور الذي تؤديه في المجتمع يمكنني فهم الدافع وراء هذا النقاش النشط في وقتنا الحالي.

أرى أن المبادرات التي أطلقتها الإمارات العربية المتحدة وغيرها من الدول فيما يتعلق بافتتاح مثل هذه المتاحف هي أمراً رائعاً للغاية. فالمتاحف تمثل الحوار بين الدول وتعبّر عن الثقافات المختلفة وتزيد من المعرفة. فعند افتتاح متحف ما في منطقة حيث الثقافة السائدة تختلف عن تلك المتعلقة بالمتحف، يبدأ المتحف بخلق انفتاح بين كلتا الثقافتين.
من المحزن حقاً ما تمر به العديد من المتاحف من ظروف صعبة اليوم نتيجة قلة التمويل، فأنا أؤمن بأن الثقافة تجلب الشفاء للمجتمع، وتعزز الابتكار والخيال لدى الشباب، وتطلق العنان لإمكانيات التنمية البشرية. وبالطبع، أنا على علم بالإمكانيات الرقمية التي تعمل اليوم على سد الفجوة، والتي عملت بعد انتشار جائحة فيروس كورونا على تزويدنا بالعروض الثقافية والفنية بصورة غير مسبوقة. أتمنى ألا نفقد قدرتنا على الوصول إلى الثقافة والفنون، فهي تعطينا القوة وتجعلنا أشخاصاً أفضل.

من المطمئن حقاً القدرة على استغلال هذا الوقت في استكشاف المتاحف ومقتنياتها والمحفوظات والتحف الأثرية لديها. وفي سياق التراث البشري، وعلى الرغم من أن الكثير من الناس يشعرون حالياً بالخوف وعدم اليقين بشأن المستقبل، إلا أننا إن نظرنا في تاريخنا البشري الجماعي على مدى آلاف السنين، فسنحظى بقسط بسيط من راحة البال نظرا إلى أننا في مرحلة ما من تاريخنا الذي لن يتوقف عن التطور باستمرار. وأتفق معك في أن الزيادة غير المسبوقة التي طرأت على الاستهلاك الثقافي هي واحدة من ظواهر عصرنا هذا التي نأمل أن تكون أحد النتائج الحسنة من هذه الأزمة.

نعم، أعتقد أن هذه الظاهرة ستقدم الأمل للناس، وآمل أن تبقى وتستمر أيضاً. من وجهة نظري، أرى أن الناس عند الاهتمام بالثقافة واحساسهم بالفضول فيما يتعلق بها لن يكونوا قادرين على التوقف عن ذلك، وهذا سيعطيهم القوة للمضي قدماً جاعلاً منهم أشخاصاً أفضل

هل يمكنكِ إخباري كيف بدأت علاقتك مع الهيئة الملكية لمحافظة العلا؟

لقد كان ذلك منذ مدة طويلة. لم أكن حينها المديرة العامة لليونيسكو، وإنما كنت أشغل منصب المندوب الدائم لبلدي بلغاريا. في عام 2009، وبعد أن تم إدراج موقع الحِجر في قائمة مواقع التراث العالمي لليونيسكو، والذي كان الموقع الأول في المملكة العربية السعودية، تم تنظيم حفل ضخم بخصوص ذلك، وقام كوشيرو ماتسورا، وهو صديق عزيز والمدير العام لليونيسكو آنذاك، بدعوتي وسفيرين اثنين لزيارة الموقع، حيث اجتمعنا هناك بسمو الأمير سلطان بن سلمان، والذي شغل منصب رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار آنذاك.
بعد أن هبطت بنا الطائرة، وأعتقد أنها كانت طائرة حربية، التي نقلتنا إلى الموقع، لم يكن من السهل عليّ تصديق ما رأيته، فقد كان جمال المنطقة وما تحتويه من فنون ومنحوتات في الصحراء العربية مدهشاً للغاية. وبعد أن تم انتخابي لأكون المديرة العامة لليونيسكو، قمت بزيارة السعودية عدة مرات، وفي الواقع، يمكنني القول إنني رافقت المملكة في هذه الرحلة الجميلة التي قمنا فيها بإدراج المزيد من المواقع في قائمة التراث العالمي. قمت أيضاً بزيارة مدينة جدة ومتاحفها الفريدة مرات عديدة، وتأملت ما تتمتع به من فنون العمارة العربية والسعودية، كما قمت بزيارة مهرجان الجنادرية مرتان، ولاحظت ما تتمتع به السعودية من تاريخ وتراث عريقين. ومن خلال إدراج هذا التاريخ في قائمة التراث العالمي، قمنا بتقديمه إلى العالم، ليصبح جزءاً من التاريخ البشري والثقافة العالمية. وعندما تمت دعوتي من قبل سمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحن آل سعود، وزير الثقافة، لكي أكون عضواً في المجلس الاستشاري التابع للهيئة الملكية لمحافظة العلا لم يراودني أي نوع من الشك على الإطلاق. أنا سعيدة لزيارتي للحِجر مرة أخرى، فقد لاحظت هذه المرة فرقاً عظيماً وتطورات كبيرة، وأرى ان المستقبل سيكون إلى جانبنا. علينا أن نكون حريصين كل الحرص على حماية الموقع وتقديمه إلى العالم والحفاظ عليه.

كيف يمكننا التنسيق بين تقديم الموقع للعالم والحفاظ عليه في آن معاً؟

سيكون ذلك ممكنا، إذ أرى أن الهيئة الملكية لمحافظة العلا مستعدة لذلك. إذ يتطلب طموحها العظيم إلى تطوير المنطقة بأكملها، بما في ذلك جعلها مفتوحة على السياحة واستكشاف التنوع الحيوي فيها والتشكلات الجيولوجية التي تمثل جزءاً من تاريخ الأرض، إضافة إلى استكشاف التراث غير المادي وأسلوب حياة المجتمعات المحلية. بالوقت نفسه يجب حماية المنطقة، فهنالك الكثير من الأمور التي ما يزال بإمكاننا دراستها، والعديد من المواقع الأثرية التي لم يتم اكتشافها بعد، إذ تمثّل فنون النحت في هذه المنطقة نوعاً فريداً من الفنون، فقد كانت شاهداً على عدد من اللغات القديمة التي لم تكن معروفة من قبل.
وفي خلاصة الأمر أعتقد أن ما يجب القيام به هو اتباع شروط اتفاقية التراث العالمي، والاستمرار بالتنمية والتطوير بصورة مستدامة – وأرى أن الاستدامة هي الكلمة المفتاحية هنا – إضافة إلى السياحة والأنشطة الثقافية وغيرها.

لقد ذكرتِ أن سكان منطقة العلا جزء كبير جدا من تطويرها. كيف يمكننا تمكين هذا أهالي العلا ليكونوا قادرين على حماية تراثها والترويج له؟

لطالما رأيت بأن المجتمعات المحلية لها دور مهم في حماية التراث. فعندما احتفلنا بالذكرى الـ40 لاتفاقية التراث العالمي، حملت السنة وجميع الاحتفالات التي أقيمت فيها عنوان المجتمعات المحلية في التراث العالمي، وذلك نظرا للدور الهام الذي تؤديه هذه المجتمعات. أما فيما يتعلق بالعلا على وجه الخصوص، فقد عملت الهيئة الملكية على تثقيف وتعليم المجتمعات المحلية لكي يكون لها دور فاعل في النشاطات المختلفة. حيث يبدأ ذلك بإرسال الشباب إلى فرنسا لأخذ بعض الدروس في فن الطهي، بالإضافة إلى تدريب الشباب الراغبين في تعلم الإرشاد السياحي والإرشاد الأمني على الحفاظ على التراث، إضافة إلى أولئك الراغبين في مساعدة فرق الخبراء العاملين على إصلاح واستعادة بلدة العلا القديمة، والتي تمت هجرتها قبل عدد من العقود، بعد أن تم بناء مدينة العلا الحديثة.
قمت مؤخراً بالحديث مع الخبراء المحليين المختصين بترميم المنازل، وسألتهم ما إن كانوا قد تحدثوا إلى العائلات التي قد سكنت هذه المنازل في السابق، كانت إجابتهم مطمئنة، فقد أكدوا لي أن أصحاب هذه المنازل كانوا قد أحضروا بعض الأغراض في هذه المنازل. وأرى أنه من المهم لهذه العائلات والمجتمعات أن تشعر بالارتباط بالعمل الذي قد تم إنجازه حتى الآن. وعندما التقيت المجلس الاستشاري للمرة الأولى قبل سنتين، كانت مشاركة المجتمعات المحلية من أوائل المواضيع التي قمنا بمناقشتها. يمكنني القول بكل ثقة بأن المجتمعات المحلية لم تُنس أبداً، وهذا أمر مهم جداً.

لقد ذكرتِ سابقًا مفهوم التراث المادي وغير المادي، هل يمكنكِ الحديث بتفصيل أكثر حول ذلك؟

لقد كانت فكرة التراث المادي منفصلة كلياً عن التراث غير المادي قبل 10 سنوات، حيث تبنّت اليونيسكو عام 2003 اتفاقية متعلقة بالتراث غير المادي، حيث كنت كسفيرة آنذاك أترأس أحد اجتماعات اللجنة. أرى أن التراث غير المادي هو إضافة مميزة لفهمنا للتراث كجزء من هويتنا البشرية. فقد بتنا في الآونة الأخيرة أكثر تفهما لصعوبة التفريق بين التراث المادي وغير المادي. كما تطرقنا إلى هذا المسألة عندما ناقشنا موضوع مشروع العلا، فقد كان التراث غير المادي في البداية شيئا يتناقله الناس جيلاً عن جيل، كالتقاليد أو التراث الشفهي أو أسلوب حياة. وهذا مهم جداً فيما يتعلق بالعلا فقد شهدنا الكثير من التاريخ في المنطقة.
يرتبط هذا أيضاً بمشاركة المجتمعات المحلية، فعندما تشاهد هذه المجتمعات أنك تحترم ما يتمتعون به من ثقافة وتقاليد وأسلوب حياة، سيشعرون بارتباط أكبر بالتراث. ولهذا السبب أرى أن التواصل مع المجتمعات المحلية أمر مهم جداً. فهو يعمل على ربط هذه المجتمعات بمشروع التطوير في العلا، والذي يمثل مشروعاً حياً كبيراً، تمثل فيه المجتمعات المحلية حجر الأساس.
وأود التوضيح أننا عندما نتحدث عن السياحة نقصد بها السياحة المستدامة، وهي السياحة التي تشارك فيها المجتمعات المحلية وتستفيد منها. كما أن الاستدامة تشمل أيضاً التراث غير المادي، والحرف التقليدية، والصناعات الثقافية، والابتكار وغيرها. من الجميل أن نرى هذا النوع من التطور في العلا.

هكذا انتهى حوارنا مع السيدة أرينا بوكوفا التي حدثتنا من شقتها في باريس. نأمل أن تكون هذه المحادثة، والتي قدمتها لكم الهيئة الملكية لمحافظة العلا، قد حازت على إعجابكم، ونتمنى منكم مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بكم. سوف يكون لنا لقاء آخر في قريبا. رافقتكم السلامة.