Please ensure Javascript is enabled for purposes of website accessibility

الحلقة الثانية – بودكاست المتحف الحي: حوار مع خالد عزّام

تاريخ النشر

11 October 2024

الأوسمة

النص

أرحب بكم، أرسلان محمد، في الحلقة الثانية من "المتحف الحي"، الذي سنأخذكم فيه إلى قلب مدينة العلا التاريخية، وتحديداً إلى الشمال الغربي من المملكة العربية السعودية. تخبئ العلا الكثير عن الماضي، وهي موطن لتراث ثقافي وطبيعي تراكم عبر آلاف السنين، ومناظر طبيعية خلابة، وعجائب أثرية خالدة، وبيئة صحراوية أصيلة تنعم بحياة حيوانية ونباتية فريدة. كل ذلك في متحفٍ حي يعرض لنا حضارات تعود إلى آلاف السنين، ويوفر لنا مصدر إلهام من أجل المستقبل. 

ومنذ تأسيس الهيئة الملكية لمحافظة العلا في عام 2017، جسّدت عملية تجديد الموقع صورة مصغرة عن التاريخ. وندعوكم في هذه الحلقة للانضمام إلينا في حوار مثيرٍ مع أحد خبراء مشروع العلا. نقدم لكم في الحلقة الثانية من "المتحف الحي" الدكتور خالد عزام، عضو مجلس إدارة الهيئة الملكية لمحافظة لعلا، وهو مهندس معماري شهير، ومدير مدرسة الأمير تشارلز للفنون التراثية في لندن. 

يجلب الدكتور عزام إلى العلا خبراته المعمارية العميقة، إذ خطط وأشرف على تنفيذ مختلف أنواع المباني، من المنازل الفخمة والمكاتب والمدارس والمساجد والقصور الملكية ضمن منطقة العالم العربي ومختلف أنحاء العالم، فضلاً عن مسيرته اللامعة في مجال التدريس وتمكين الطلاب وإلهامهم من خلال تعليمهم مختلف أوجه العمارة الإسلامية من تصاميم وحِرف وجماليات. وبصفته عضواً في مجلس إدارة الهيئة، عمل الدكتور على صياغة ميثاق الهيئة الملكية لمحافظة لعلا علماً أن هذا الميثاق يعبر عن خطة عمل أساسية في مسيرة تجديد الموقع التاريخي وتحويله إلى متحفٍ حي. ويطرح الدكتور سؤالاً جوهرياً في الميثاق؛ كيف يمكننا تحقيق أهدافنا دون المساس بالخصائص البيئية التي يتميز بها كوكبنا؟ ومن هذا المنطلق ينص الميثاق على مجموعةٍ من المبادئ التوجيهية والتعهدات التي تركز على المقومات الطبيعية والثقافية للموقع ودمجها في بيئة واحدة، وتعزيز مكانة العلا وجعلها مثالاً رئيسياً تفخر به المملكة ويعكس أنماط الحياة البرية في شبه الجزيرة العربية، ونموذجاً ناجحاً على مستوى حماية المناظر الطبيعية. 

سُجِّلت هذه المقابلة أثناء فترة حظر التجول الكامل في لندن، وتحدثنا أنا والدكتور عزام فيها عن منهجيته في صياغة الميثاق والمخطط الرئيسي لتطوير المنطقة، والتحديات المتوقعة أثناء عملية فتح الموقع أمام الزوار دون إلحاق الضرر بنظامه البيئي المميز، كما تحدثنا عن تأثر الدكتور عزام بما لمس من أرض العلا وأهلها وتقاليدها وتاريخها الطبيعي والسلام الداخلي العميق الذي شعر به هناك.

شكراً لك دكتور خالد على انضمامك لنا اليوم. 

شكراً لك على استضافتي

أنت ضمن الفريق الرئيسي الذي يعمل على تحقيق رؤية العلا وتنميتها، لكن قبل أن نبدأ حديثنا عن العلا، هلا حدّثتنا قليلاً عن نفسك وكيف ساهمت خبراتك في شغلك المنصب الحالي في مجلس إدارة الهيئة الملكية لمحافظة العلا؟

أمارس الهندسة المعمارية منذ قرابة الثلاثين عام، ولدي أيضاً خبرة في مجال التعليم، فأنا حالياً مدير مدرسة الأمير تشارلز للفنون التراثية في لندن، ونشارك من خلال عملنا في المدرسة مع العديد من الأوساط المجتمعية حول العالم، ونعمل كذلك في المملكة العربية السعودية، كما أعمل شخصياً في المملكة منذ قرابة الخمسة عشر عام. ولا ينحصر الهدف الأساسي للمدرسة على تعليم الفنون والحرف بأنواعها، بل تهدف أيضاً إلى فهم المبادئ المتأصلة خلف هذه الفنون، والفن هو اللغة المستخدمة لإيصال هذا الفهم. كما تهدف بشكل رئيسي إلى إلهام الشباب لاكتشاف هويتهم والمجالات التي يتفوقون بها ونظرتهم إلى القطع الفنية بصورة أعمق من كونها مجرد تحفة مادية، ومدى تأثرهم بهذه الأعمال، وكيف يستغلونها معنوياً ومجتمعياً وثقافياً لمد الجسور الثقافية بين العالم، لأننا نعتقد حقاً أننا جميعاً أتينا من نفس المصدر، وأصلنا واحد، وذلك ما يدعوني للاهتمام بهذا العمل.

هل يمكنك إعطاءنا بعض الأمثلة من خلال دورك التعليمي على كيفية تيسيرك للتبادل الثقافي من خلال التصميم الحرفي والتراث؟

هذا الأمر مثير للغاية، لأننا تعلمنا ذلك خلال مسيرتنا، حيث كنا نجري بعض الفحوصات ضمن 25 دولة تقريباً. فلدينا مراكز في ست دول، وهي الصين وكاراشي وجدة والقاهرة وأذربيجان وجامايكا، كما عملنا مع مجتمعات الأمم الأولى في كندا. نحن نؤمن بمبدأ أننا مختلفون للغاية من جانب واحد، لكننا نعيش ضمن منظومة طبيعية واحدة بغض النظر عن إيماننا أو ديننا، سواء كنا مسلمين أم مسيحيين أم يهود أم هندوس. نحن نشكل جزءاً من هذه المنظومة الطبيعية، سواء آمنّا بأنها تكونت بمشيئة إلهية أم لا، فنحن نراقب هذه المنظومة ونتعلم منها فقط. والأمر الوحيد الذي لا يمكننا إنكاره هو أنه لا يمكننا الخروج من إطار هذه المنظومة الطبيعية، وليس لدينا خيار آخر، فالشمس تشرق وتغرب، والقمر يبزغ ويأفل، وهناك أيضاً مراحل القمر ومصدر تجدد الحياة، فضلاً عن حركة الكواكب بمسارات محددة، وهناك أنواع من النباتات التي تنمو بأشكال مختلفة، وحمضنا النووي أيضاً، كل ذلك يسير وفق نظام معين، وليس لدينا خيار آخر إلا التعلم من هذه الأمور. ووجدنا أن لغة علم الهندسة هي من أهم اللغات التي يمكننا تعليم هذه الأمور من خلالها، وهي لغة النظام الطبيعي هذا، ولغة فهم هذه الظواهر الطبيعية سواء كانت هياكل خلوية أم أنماط نمو أم أبعاد محددة. ونجد كل هذه الأمور ضمن الترتيب الطبيعي، فهي تنبع من نفس الأصل. وقد أدركت الحضارات العظيمة هذا الأمر وتركت جميع الأديان العظيمة معالمها على هذا الأساس. فعندما تنظر إلى الكاتدرائيات القوطية أو المعابد الهندوسية أو المساجد العظيمة والأنماط الهندسية الإسلامية، فهي تشكل جزءاً منا، فهيكل حمضنا النووي خماسي الشكل. وكما قال أفلاطون، علم الهندسة هو لغة الحقيقة. لذلك نريد مساعدة الناس على فهم أبعادهم وكل ما هو حولهم والإيقاع الخاص بهم، وكيف يمكن لشيء الانبثاق من أصل والعودة إليه مرة أخرى، ثم كيف يتجلى في العديد من المستويات المختلفة، إذ تنمو بعض الزهور في العلا ولا تنمو في أي مكان آخر. إذن فالأمر لا يتعلق فقط بالشكل والنمط، ولكن كيف تنبعث الأشياء التي نقوم بها في هذا الترتيب الطبيعي، وكيف تعود إليه، ثم يبدأ الطلاب في جميع أنحاء العالم في التفكير بهذا الشكل. ومن المهم جداً أن يصبح هذا الوعي هو ما ترتكز عليه آلية التفكير. وبهذه الإجراءات ومع فهمنا لهذا العالم، وعندما ذهبنا إلى العلا لأول مرة، كانت أول مشاركة لي مع العلا هي تقديم بعض النصائح والنظر إلى بعض الأشياء، وأدركت فجأة أن هذه فرصة عظيمة هنا، لأن العلا كانت نقية جداً وقوية جداً وجميلة جداً، كما كان تأثيرها على نفسي وقلبي ووجودي عميقاً جداً. وقلت إن علينا العمل بالطريقة الصحيحة. علينا أن نفهم ما هو ترتيب طبيعة العلا، ما الذي نتعلمه هنا، وكيف يجب أن تنبثق أعمالنا في هذا المكان من التراتب الطبيعي للعالم.

يبدأ ميثاق العلا بمقدمة تتضمن سؤالاً عن كيفية تحقيق أهدافنا دون المساس بالخصائص البيئية التي يتميز بها كوكبنا وحمايته. إذاً، كل ما قلته لي يدور حول فكرة العامل الرئيسي في عملك على تطوير الرؤية لإنعاش العلا وفتح أبوابها أمام العالم. 

شعرت أنه كان علينا كتابة الميثاق، لأنه ومن خلال مناقشاتي مع سمو الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة محافظ الهيئة الملكية للعلا، والإدارة العليا للهيئة، قالوا إن كل ما نفعله في العلا يجب أن يشكل بياناً للعالم. العلا ملك لنا مادياً، ولكن على النطاق الأوسع هي جزء من البيئة الطبيعية التي تتعدى الحدود والثقافات والبلدان. وبالتالي لا يمكننا أن نفعل شيئاً هنا لا يخاطب العالم. وهذه فرصة لنظهر للعالم ما يمكننا القيام به كعرب ومسلمين، وكيف نتعامل مع واحدة من أهم القضايا التي تواجه العالم، وهي كيفية تعاملنا مع البيئة الطبيعية، ما هي الرسالة التي نود سماعها؟ لذلك قلنا في البداية أن علينا كتابة هذا الميثاق، وعلينا أن نكتب بيان النوايا، وهو إلى حد ما التزام نيابة عنا بما سنفعله هنا. ولكنه أيضاً تفسير للعالم حول كيفية التعامل مع هذا العمل. كنا نعلم أننا سنواجه الكثير من التحديات، وعلمنا أننا سنواجه قرارات قد لا نرغب بسماعها. وكان علينا أن ننشئ نوعاً من المرجعية. وهذا ما سيرشدنا في حال واجهتنا بعض الأخطاء. لذا فهو يمثل حجر الأساس لكل هذا العمل الذي نقوم به معاً.

بالنسبة لمن هم ليسوا على دراية بالموقع. هل يمكنك الإيضاح لنا وإعطائنا أمثلة على الأشكال الجيولوجية والحياة البرية والتاريخ الزراعي ومعاهدات الماضي التي يمكن العثور عليها في الموقع؟

من الأمور التي أردنا أن يفهمها الناس حول العلا هو المعنى الحقيقي للمناظر الطبيعية. أي ماذا يقصد الناس عندما يتحدثون عن المناظر الطبيعية؟ إنه ليس مجرد مشهد طبيعي لبضعة جبال. التعريف الصحيح للمناظر الطبيعية هو طريقة تفاعل النظام الطبيعي والنظام الإنساني معاً في مكان ما. إذ يمكننا الحديث عن المناظر الطبيعية في روما والمناظر الطبيعية في البندقية والمناظر الطبيعية في العلا. لكن ما يعرّف ذلك المشهد فعلاً هو كيفية تفاعل الإنسان مع البيئة الطبيعية، فخلاف ذلك، إنها مجرد طبيعة، وكما تعلمون، الطبيعة موجودة في كل مكان، لكنها تصبح مناظر طبيعية عندما يتفاعل معها البشر. كانت العلا مثالاً رئيسياً على ذلك لأننا رأينا عبر مئات السنين من خلال علم الآثار أن العلا كانت موطناً لتفاعل البشر على مدى قرون عديدة. وقد تفاعلوا جميعاً معها وفقاً لشروطها الخاصة، وكان هناك تقدير كبير لها. لقد تركنا الكثير من الجمال والمعرفة. لكن ما فهمناه هو أن هذا هو المنظر الطبيعي بمعناه الصحيح، وكيف أن التفاعل بين الإنسانية والعالم الطبيعي والعلا واضح جداً. وكانت رسالة العلا جميلة جدًا، الأمر الذي ترك دلالة معينة. لقد كانت رسالة تركت لأولئك الناس الذين كانوا يعلمون أنهم سيغادرون هذا العالم. وعلى الرغم من أننا وجدنا القليل جدًا في العلا عن حياتهم اليومية، إلا أننا نعرف الكثير عنهم بسبب الرسائل التي تركوها خلفهم. فبالنظر إلى جبل عكمة، وهو مصدر للنقوش الجميلة والحكيمة، نجد أنه يمثل رسالة للعالم يتوارثها الناس جيلاً بعد جيل. وعند النظر إلى السمات المعمارية الرئيسية التي زيّنت مقابرهم ومعابدهم نجدها بمثابة الرسالة الأبدية؛ فهي جزء من طبيعة أبدية. وكما هو واضح، لقد كان عليهم التفاعل مع الطبيعة، وهو الأمر نفسه الذي كان علينا القيام به، فعندما أخذنا ننظر إلى طبيعة العلا، أو منطقة الرحلة عبر الزمن، والتي هي من بلدة العلا القديمة حتى منطقة الحجر وجدنا بأنها تتمتع بمناظر فريدة من نوعها، فقد وجدنا أن داخل هذا النظام الطبيعي هنالك خمسة تصنيفات جيولوجية مختلفة، وهو أمر غريب للغاية وفريد جدًا. أنا لست عالم جيولوجياً، ولكنني لم أرَ شيئاً كهذا من قبل. وعندما حاولنا تحديد الفنون المعمارية والأشكال والصفات المادية، بدأنا بدارسة الخصائص الجيولوجيا في المنطقة ووجدناها مختلفة عن غيرها، ولكنها كانت نفسها في جميع أنحاء المنطقة الطبيعية.

ما الذي جعلها مختلفة؟

تحتوي المنقطة على حجارة مثل البازلت والحجر الرملي وتندمج معاً بطريقة مثيرة للاهتمام. هذا ليس كل شيء، فحتى لو ذهبت إلى المنطقة وأنت على علم بأنها تحتوي على البازلت والجرانيت والحجارة الرملية والجيرية، فستجد أن الخصائص الجيولوجيا للعلا فريدة من نوعها. ولهذا، فإن أردنا تحقيق أي تأثير عالمي، سيكون علينا معرفة السبب وراء تميزها. وبسبب جمال ألوان هذه الحجارة والصخور.

نعم

طلبت من فريقي تحليل هذه الألوان. فأمضينا أياماً ونحن نجمع الحجارة والصخور، ومن ثم ذهبنا إلى المختبر، وقمنا بطحن ما جمعناه وصنعنا منها صباغاً، فاتفقنا على ضرورة تحديد ما هو لون العلا، إذ يجب على كل ما سيُبنى هنا في المستقبل أن يتبع مجموعة الألوان التي تقدمها هذه الطبيعة. فنحن لا نريد فرض شيء غريب على هذه الطبيعة، فلم لا نلتزم بما هو جزء من هذا النظام الطبيعي؟ لم لا نستغل ما هو في داخل هذا النظام؟ وعليه، بدأنا بتحليل أشكال الأزهار، وأخذنا نتطلع إلى السماء فوقنا، ورأينا الأجرام والكواكب التي لا تتحرك بعشوائية، بل بشكل هندسي دقيق. دفعنا ذلك إلى تحليل المزيد من المعلومات، وساعدنا في وضع بروتوكول مفاده بأن العمل هنا ليس مقصوراً على قراءة الميثاق فحسب، بل بفهم النظام الطبيعي هنا والخصائص والعمل من الداخل والالتزام بما يميز هذه المنقطة

هل يمكنك وصف تلك الأصباغ لأولئك الذين لم يتسنَ لهم رؤية العلا من قبل؟

إنها تلك الصفراء الفاقعة والبرتقالية والحمراء المفعمة بالحياة والتي تعطي بريقا عند سقوط أشعة الشمس عليها وقت الغروب، فيها تدرجات لونية وكأنها أطياف صغيرة تجتمع معاً. تتخلل هذه الألوان خطوط تشكلها صخور أخرى رمادية وغيرها. إنها تجربة بصرية فريدة وعميقة جداً وجمالها يحرك المشاعر. فبالنظر إلى هذه الأبنية الحجرية القديمة، تجد أنها بنيت من الصخور الحمراء نفسها التي شكلت المكان. وبالتالي، فبالنظر إليها نرى مثالاً على الفن المعماري القائم والخصائص الجيولوجية في الوقت نفسه.

هل يمكننا الحديث عن الحياة البرية، والمقابر والرسومات؟

نعم. لست بعالم آثار، ولا أعرف الكثير عن الحياة البرية، ولكن العلا أشبه بالسجل. إذ يمكننا رؤية حيوانات لا يمكن رؤيتها الآن. فقد دُهشت حقاً عندما شاهدت نقوشاً لطيور النعام في تلك المنطقة. فلم أكن أتوقع أن النعام قد عاش في تلك المنقطة من قبل. يمكن رؤية العديد من الحيوانات الأخرى أيضاً.

هذا مذهل فعلاً

تلك النقوش جميلة جداً، إذ يمكنك رؤية الأزهار والورود أيضاً. فقد كان السكان القدامى يصوّرون بتلك النقوش العالم من حولهم، كما تم من خلال نقوش جبل عكمة تسجيل نصوص باللغات التي كانت مستخدمة في ذلك الوقت. نحن نعمل ضمن ما نراه حولنا ونحاول الاندماج معه ونظهره من خلال تفاعلنا مع هذا العالم الطبيعي، كما لا نقوم بفرض شيء عليه أبداً، فنظراً إلى أن العلا والوادي والواحة كانت جميعها مناطق زراعية، فإن أردنا تطويرها، علينا معرفة بأن الزراعة كانت جزءاً كبيراً منها. علينا أن نفهم أيضاً بأن الطبيعة آخذة في التغير وأن نأخذ شح المياه بعين الاعتبار. فنحن على علم بأن مستويات المياه قد انخفضت بشكل كبير عما كانت عليه في العصور السابقة. إنها بيئة متغيرة، وعلينا معرفة كيفية التعامل مع هذه البيئة المتغيرة لتحقيق أنماط التطوير التي نسعى لها، وهو أمر ما يزال يشكل تحدياً في وقتنا هذا.

لقد كانت هذ المنطقة مركزاً زراعيا مزدهراً تسكنه مجتمعات مفعمة بالحياة ولكنه أخذ بالتراجع شيئاً فشيئاً. ومنذ فترة طويلة، لم تشهد هذه المنقطة شيئاً جديداً، هل هذا صحيح؟

نعم، هذا صحيح. فقد كان هذا ما يحدث عادة في الأماكن التي تقع بالقرب من الطرق التجارية، فقد كانت هذه المنطقة جزءاً من طريق البخور، والذي كان يمتد من الإمبراطورية الرومانية باتجاه الجنوب. وكما تعلم، مع مضي الوقت تغيرت الطرق وتلاشت. وفي الحقيقة، إن معرفتنا أن هذه المنطقة قد تُركت دون أن يمسها أحد لسنوات طويلة تمثل اكتشافاً كبيراً جداً، إذ يخبرنا علماء الآثار أنهم يكتشفون فيها أشياء فريدة تعود إلى فترات مختلفة من الزمن تمتد بين العديد من الحضارات. وهذا بدوره يجعل المنطقة واحدة من أكثر مواقع التنقيب عن الآثار إثارة لاهتمام.

إذا فهي منطقة مهمة تدفع علماء الآثار على القدوم واكتشاف أشياءً لا يمكن إيجادها في مناطق أخرى؟

بكل تأكيد، وهذا نتيجة لكونها المنطقة الوحيدة بهذا التنوع الاثني. فهذا يؤكده علماء الآثار، ويثير اهتمام الجمهور العام. ففي كل مرة تزور فيها العلا تجدها تحتوي شيئاً جديداً، كعملية تنقيب أثرية جديدة أو تجارب فريدة.

ما الذي يجعل تطوير العلا وتقديمها إلى العالم أمراً هاماً الآن؟ وما هي الفكرة من المتحف الحي؟

إن الأمر ذو أهمية في وقتنا الحالي، فكما قلت سابقاً، وعند بداية مشاركتي في هذا المشروع، لا يقتصر هذا المشروع على العلا فحسب، إذ يتطرق إلى عدد من الأمور التي تواجه البشرية والعالم أجمع. كما أن المتحف الحي هو فكرة مثيرة للاهتمام حقاً، فالطريقة التي نصور من خلالها التاريخ، والطريقة التي نعرض من خلالها المعرفة ونظهر التجارب المختلفة لم تعد بداخل تلك المباني التي اعتدنا زيارتها. لقد تغيرت المتاحف، وتغير معها علم المتاحف وفنها. وكما تعرفون، تجمع المتاحف بين الفن والثقافة والتراث، وتجمعنا العلا جميعاً في مكان مفتوح، وتجمع تلك العناصر معاً في مشهد طبيعي، وسياق حقيقي. وبالتالي، فإن العمل في هذا المشهد الطبيعي وفهم معناه الحقيقي هو أمر فريد تماماً بسبب نقاء العالم الطبيعي. لم تحدث أي تطورات منذ مدة، ولهذا فهذه هي الحظة التي يمكننا فيها القول بأننا إن أردنا تطوير وتقديم العلا بصورة صحيحة، فلا بد من القيام بذلك الآن، وهي رسالة للعالم أجمع.

إذا فالمتحف الحي هو المكان الذي يمكننا فيه إظهار الطريقة التي يتم من خلالها الحفاظ على الآثار وتقديمها للعالم. وهو الآن يأخذ في التطور.

نعم، كما يتطلع المتحف الحي إلى المستقبل والماضي معاً. فهنالك عدد من الدراسات التي تبحث في الأمور المتعلقة بكيفية تشكل البلدات القديمة، وكيف أن المزارع الصيفية المتواجدة على أطراف الطرق كانت جزءاً من الحياة فيها وما هو الدور الذي لعبته الواحة وكيف ترتبط بالبلدة القديمة. ومن خلال متحف الحياة في الذاكرة سنعمل على إعادة ذلك كله، حيث سيكون هذا المتحف عبارة عن سلسلة من المعارض المنتشرة في البلدة القديمة والمزارع الصيفية في الوادي، كما قد يكون هنالك معارض أخرى تبحث في أنماط الحياة المعاصرة. وبالتالي، فنحن لا نصب كامل تركيزنا على الماضي، بل نأخذ الحاضر والمستقبل بعين الاعتبار. فالتاريخ في استمرار دائم، وعلينا ترك بصمتنا على هذه الجزء منه.

هل يمكن تشبيه ما تفعلونه هنا بنموذجٍ لشكل تفاعلي جديد مع ثقافات المنطقة المحلية وغيرها؟

إنها طريقة جديدة للتعرف على الثقافات، فنحن ندعو إلى زيارة الوجهة ومشاهدة عناصرها الثقافية ضمن سياقها الخاص. فهي دعوة للتعلم على أرض الواقع عبر الرسائل المكتوبة على يد الطبيعة وسكان المنطقة الذين تفاعلوا مع أوساطهم وأبدعوا قطعاً فنية تاركين خلفهم صروحاً عريقة. ولا حاجة لنقل هذه المعالم إلى متحف أو بناءٍ ما، حتى يتسنّى لكم القدوم والإكتشاف.

...يمكن القول إننا المسؤولون عن ابتكار المتحف ...

بالطبع، فقد نشأ المتحف من خلال تنقلكم واستكشافاتكم التي كشفت لنا عن مناطق مختلفة. نطلق على الجزء الأساسي من خطتنا الرئيسية التي نطوّرها اسم رحلة عبر الزمن. فعند الانطلاق بتلك الرحلة، سترون سلسلة زمنية تتكشف ملامحها من خلال هذه المعالم والجبال والنقوش والمقابر التاريخية فضلاً عن العناصر الأثرية والطبيعية وسبل تفاعلها معاً. إنها حقاً رحلة عبر الزمن يمكن التعرف على تفاصيلها من خلال تجاربكم الخاصة، التي تجري في أحضان الطبيعية، وتنفصل عن السياق التجريدي لتأخذ قالب سياقها الطبيعي. ويعتبر ذلك درس رائع وغني بالمعارف؛ فهو لا يتمحور حول معرفة الملامح التاريخية فحسب، بل يركز على ضرورة أن نرى الحياة من منظور عصري يتجاوز حدود الزمن. لذلك، ينبغي أن نتعلم كيف نعيش في العالم الطبيعي، وندرك الأثر الذي نتركه خلفنا. بالطبع، لابدّ من وجود أبنية جديدة تراعي خصوصية المكان، وتحديد سمات تلك الأبنية التي ينبغي أن تنسجم مع الملامح التاريخية للمنطقة. فالأثر التي نتركه خلفنا مهم للغاية، وسيتعلم الناس منه بالتأكيد.

ذكرتَ للتو الخطة الرئيسية والميثاق الذي يشكل مجموعة الأهداف المثالية والمرجوة من تجارب محافظة العلا. ما هي الخطة الرئيسية؟ 

كانت الخطة الرئيسية في طور الانتهاء عندما وضعنا مبادئ الميثاق، فقد أدركنا أن هذه المنطقة ينبغي أن تخضع للتطوير بطريقة أو بأخرى، وكان هنالك محاولات عديدة لإعداد تصاميم الخطة الرئيسية وغيرها. وأنا مهتم للغاية بهذه الخطة التي تشير تسميتها إلى قيام عدد قليل من الأفراد بتطويرها والتحكم بها، فأنا لا أحبذ هذا النهج، بل أثق بنهج المجتمع الخاص لابتكار هذه السبل. لكن كما ذكرت، علمنا بأنه سيتمّ الكشف عن الخطة الرئيسية قريباً. ووضعنا الميثاق بشكل بسيط ليضمّ 10 مبادئ توجيهية تلخص أهداف عملياتنا المرجوة في محافظة العلا. ووجهت هذه المبادئ مسار تصميمنا وخططنا وكافة مراحل عملنا، كما قدمت إجابات عن آلية العمل والأهداف المرجوة. وهذا ما جعلها أساس الميثاق والمبادئ التي أرست بدورها مقومات الخطة الرئيسية. وقد ظهرت الخلاصة النهائية بعد دراسة محافظة العلا على هيئة خطة رئيسية. وكل ما علينا فعله هو إطلاق سلسلة من التجارب في إطار هذا المخطط الرئيسي. وتتكون المنطقة من البلدة القديمة والواحة والوادي والجبال والسهول والوديان ومدينة الحجر. وعندما ننظر إلى تسلسل الخطة الرئيسية للرحلة عبر الزمن، ندرك أننا نمتلك الركائز الأساسية، إذ نودّ أن يخوض الناس تجربة التنقل بين هذه الجبال، وفي أحضان الوادي الذي نراه كمحور أساسي تقوم عليه هذه الخطة الرئيسية مع تجاربها، ونحن ندعوه بوادي الضيافة الذي يشكل محطة للتأمل وممارسة مختلف النشاطات. بالتأكيد، قد نفتتح فنادق أو منافذ للأطعمة والمشروبات أو وجهات ترفيهية أو متاحف أو معارض فنية. إلا أن أساس الخطة الرئيسية كان موجوداً، عبر النظر مجدداً إلى الميثاق الأصلي لفهم ترتيب هذه العناصر الطبيعية. وعندما شرعنا بتنفيذ الخطة الرئيسية، لم يكن الأمر متمحوراً حول تشييد طرق وبنى وعناصر جديدة، بل كان علينا إدراك ما تحتضنه المنطقة وإطلاق خطة رئيسية مبنية وفقاً لملامحها. لذلك، علينا أن ننظر إلى الإرث الثقافي والجغرافي ومخطط الأرض، فضلاً عن التجارب المختلفة التي يمكن أن تقدمها. وتمثلت إحدى الدروس المستفادة في بدء تحديد ملامح هذه المنطقة في إطار هذه الخطة الرئيسية وضمن مناطق مختلفة عبر مراحل تقدمنا. وقد بدأنا بفهم الأسباب التي تدفعكم إلى التوجه من البلدة القديمة التي تعتبر مركزاً متنوعاً ينبض بزخم الحياة اليومية إلى الوادي حيث تظهر الجبال المحيطة بشكل ساحر، وترتفع بسمو مهيب كما لو أنها تشكل عالماً جديداً يشمخ نحو الأعلى من أرض الوادي المنخفضة. وتكتمل اللوحة عند الانتقال المفاجئ إلى مشهد سهل الوادي ذي الأطراف المترامية والذي يكشف عن مدينة الحجر الغارقة في سكون مهيب. لذلك فإن الخطة الرئيسية كانت تخاطبنا، وكان علينا أن ننصت جيداً وندرك أن علينا العمل وتطبيق التصاميم في إطار ذلك، وهذا ما أثمر عن تجربة استثنائية.

إذاً، هل كانت كافة المقومات المتواجدة؛ البلدة القديمة، الطبيعة البرية، المساحات المفتوحة، الجبال الشاهقة، هي العوامل التي بلورت هذا المشهد الطبيعي الخلاب؟ 

بالطبع، وكل ما توجب علينا فعله هو فهم هذا الميثاق وكتابة هذه المبادئ التوجيهية، وقد ركّز كل مصمم بعمله على إدراك هذه النقطة. لذلك، نثق بأن أعمالنا يجب أن ترتكز على العالم الطبيعي انطلاقاً من كوننا جزءاً من الطبيعة.

كيف يمكن وضع خطة لجذب زوّارٍ فاعلين وإعطاء الأولوية للحفاظ على السمات التاريخية لمحافظة العلا وحماية معالمها؟ وكيف يمكن أن تكون المملكة العربية السعودية سباقةً عالمياً في إرساء ركائز السياحة المستدامة التي تراعي البيئة المحيطة؟ 

عندما أتينا على ذكر الخطة الرئيسية، تحدثنا عن فهم طبيعتها. وأشرنا، على العموم، إلى ضرورة صياغة مراحل التجربة بما ينسجم مع العنصر البشري. لذلك، يمكننا طرح سؤال: ما هي الجوانب التي قمنا وفقها بمراعاة العنصر البشري وعناصر التطور في إطار الصورة الشاملة للخطة الرئيسية؟ والنتيجة كانت أن الأمر لا يتمحور حول ركوب الحافلة وزيارة المواقع السياحية والتجول في الأرجاء. وقد قسمنا الخطة الرئيسية إلى خمسة محاور يحمل كل واحدٍ منها، أحد عناصر الضيافة مثل توفير مكان إقامة يتيح قضاء ليلتين إلى ثلاث أو تجارب مميزة لاستكشاف الوادي أو صعود المنحدرات أو قراءة صفحات من التاريخ، ثم تستمر الرحلة بالتنقل عبر باقي المحاور التي تتيح لكم حرية استكشاف سحر المكان والابتعاد عن مشاغل العالم الحديث. ولا نعتمد على ركوب السيارات أو وسائل النقل العامة، إذ ندرك أهمية حماية المكان من التلوث للاستمتاع بصفاء السماء ليلاً وخوض تجربة متكاملة بسحرها. كما يجب أن تكون فكرة السياحة البيئية شاملة من كافة الجوانب، لذلك من غير المعقول أن أخوض تجارب مختلفة عند العودة إلى الفندق، إذ لابدّ من الحفاظ على عامل الاستمرارية.

إنها مقاربة شاملة للغاية

بالطبع، حيث يتمحور الأمر حول أهمية أن تكون طريقة خوضي لهذه الرحلة والتجول في الوادي ومشاهدة المناظر الطبيعية وطريقة عرض المشاهد وتناول الطعام ومفهوم الفندق والمعرض الفني متوائمةً مع بعضها البعض. ونعتقد أن الناس سيتفاعلون مع محافظة العلا وفق هذه الطريقة، ونأمل أن نتمكن من تحقيق ذلك. تمحورت إحدى الأفكار أو الرسائل التي جالت بخاطري عندما كنت أحاول شرح جوانب هذا المشروع -فيما يتعلق بزيارة أماكن عديدة وخوض تجارب متنوعة وتسجيل الذكريات- حول الشيء الذي يُحفر بالذاكرة بعد زيارة الوجهة. لذا أردت أن يخوض الزوار تجربة متميزة تدفعهم لاكتشاف ذواتهم بعد مغادرة محافظة العلا. إنها تجربة عميقة حول حقيقة إنسانيتنا في عالم الطبيعة، وهذا ما يجعل زيارة محافظة العلا بمثابة رحلة متكاملة وغامرة. فنحن اليوم نعيش في عالم مجزأ للغاية حيث تفرض علينا الأوهام في كل وقت، وتطغى فيه سرعة التعددية. لذلك، فإن فكرة فهم حقيقة هويتنا ضمن سياق كهذا تحتاج للتمهل بعض الشيء ومحاولة فهم النظام الصحيح وتناغمه لإدراك أننا جزءٌ من إيقاعه المنسجم. وهذه هي الرسالة التي تركها لنا أسلافنا.

هل توصلت إلى ذلك عندما زرت المحافظة للمرة الأولى؟ وهل تركت زيارتك تلك أثراً عميقاً في داخلك؟

نعم، وهذا ما دفعني للمشاركة في كتابة الميثاق، فقد شعرت أنه مكان مميز للغاية، وكانت تجربتي التي خضتها السبب الأساسي لكل ما قمنا به حتى الآن. وقد سبقت تجربتي الشخصية في أحضان محافظة العلا موعد إطلاق المشروع بست أو سبع سنوات. فمنذ وقت طويل، تم تفويضي بزيارة محافظة العلا لدراسة المشاريع المحتملة ووضع خطة رئيسية، وهناك قضيت يومين بمفردي. وكانت المنطقة مختلفةً تماماً عمّا هي عليه اليوم؛ إذ شكلت تجسيداً حقيقياً لمعنى الصفاء والسكينة. وأمضيت وقتي متسلقاً الجبال والوادي، أحاول استكشاف المكان والتمعن بسحره، وشعرت بطاقةٍ غمرتني من الداخل كما لو أنه إحساس بالمسؤولية، وكنت خائفاً للغاية. إذ أدركت أن البصمة التي سنتركها هنا يجب أن تكون مميزة جداً، وسألت نفسي إن كنت أملك الشجاعة الكافية للقيام بذلك؟ وغادرت المكان بدون القيام بشيء، وهذا ما خلّصني من الشعور بعدم الارتياح على نحو ما.

إذاً، فقد شعرت بالارتياح من ضغط المسؤولية.

نعم، كانت تجربة لا تتكرر. وكنت ممتناً لأن ذلك لم يكن واجباً مفروضاً عليّ، فلم أكن مدركاً ما ينبغي عليّ القيام به. لكن، وبعد عدة سنوات، زرت المكان مرة أخرى وعادت لي الذكرى مجدداً، وكنت موقناً بضرورة الحرص الشديد على تنفيذ مشروعنا. وكان صاحب السمو الملكي متحمساً وفخوراً لأننا نقوم بالعمل على أكمل وجه. ووافقنا على كتابة هذا الميثاق ووضع المبادئ التوجيهية وتطوير الخطة الرئيسية وتقسيم التجربة إلى عدة محاور، ونأمل أن يكون هذا النهج هو الطريق الصحيح لإنجاح المشروع.

ما مدى أهمية احتضان المجتمعات الحالية وتمكينها؟

إنه أمر مهم للغاية. وأنا مدرك لطبيعية الحياة في المنطقة، فقد كنت أعمل هناك، لذلك أعتقد أن سياسة تحييد السكان وتهميشهم عما يجري كما لو أن المجتمع يخضع لهيكلية جديدة ليست بالحل المناسب على الإطلاق. فإن كنا نريد أن نحتفي بتاريخ محافظة العلا العريق، علينا احترام تاريخ السكان المتواجدين حالياً لأنهم جزءٌ من هذا التاريخ المتواصل. وفي الوقت نفسه، كان علينا تشجيعهم على المشاركة والتفاعل حتى يتحملوا مسؤولية حماية هذه الفكرة، فهم يقطنون هنا وهم أصحاب المكان، ونحن مجرّد زوّار وضيوف. وحالما نساعدهم على فهم الرؤى ونأخذ بيدهم للمشاركة في هذه البرامج، سيغدون أبطال فكرة المشروع الذين يثقون بنجاحها ويعملون على تحقيقها. وأجد في حماسة شباب محافظة العلا، ممن أدركوا فجأةً حقيقة ما يجري في منطقتهم والدور الذي يلعبونه، ظاهرةً استثنائيةً للغاية. وكان علينا أن نصرّح بشكل واضح أن مشروعنا لا يتمحور حول إطلاق منتجع، فنحن نعمل مع مجتمع تفاعلي ضمن بيئة حيّة، ولا سبيل إلى إطلاق أي مشروع بدون مقابلة سكانه المحليين والتفاعل معهم لابتكار تجربة حقيقية، إذ ستكون الوجهة، بخلاف ذلك، مدينة أشباح يسكنها السيّاح، وهذا ما لا نريد القيام به على الإطلاق. وقد كان التفاعل مع المجتمع المحلي مذهلاً جداً، حيث قمت بالمشاركة في عدد من البرامج التي أطلقتها مدرسة الأمير، ولاحظت أن شباب محافظة العلا يتمتعون بشخصيات مذهلة وذكية ومتقدة الحماس. وهم يخوضون تجارب استكشافية بقدر ما نقوم نحن بالتعرّف إلى تراث أجدادهم. إنه أمر مذهل جداً، لأننا في بعض الأحيان نعلمهم كيف يقومون بفعل بعض الأشياء مثل نسج تطريزات معينة أو نقوشات أو رسومات على الريش. وقد حدثونا عن إعجاب أمهاتهم بما شاهدنه من إبداعات مختلفة، والقصص التي روينها حول أعمالهن التقليدية قديماً. وفي بعض الأحيان، كان يأتي أولياء الأمور إلى الفصل. استطعنا من خلال هذه الأنشطة البسيطة أن نتيح لليافعين فرصة استكشاف ذواتهم، والتفاعل مع تراث منطقتهم برفقة ذويهم. وشكلت هذه البرامج الصغيرة التي انطلقت تحت إدارتنا تجارب حيّة وتفاعلية، وسنعمل على إطلاق المزيد.

هلا أخبرتنا عن سكان محافظة العلا؟ من هم؟

إنهم أشخاصٌ اختاروا العيش هنا منذ زمن طويل، فهم يعرفون تراثهم وأسلافهم. ويدركون جيداً هوية أجدادهم ويوقنون أهمية فكرة المعرفة الذاتية والانتماء المجتمعي. وعندما بدأنا بالحديث عن البلدة القديمة، على سبيل المثال، أبدى الجميع رغبةً بالمشاركة رغم أن المنطقة عبارة عن منازل مهجورة من الطوب والطين. ويعرف الجميع مكان بيوت أجدادهم ومزارع أسلافهم، لذلك فإن الرابط مع التراث والأرض هناك متين جداً. إنهم يدركون بالضبط ماهية هويتهم الحقيقية. أعتقد أنهم أشخاص مذهلون يتحلون بكرم الإنسان الحقيقي، كما يتسمون بشخصية منفتحة وودودة وسخية، وهم أذكياء للغاية ويتمتعون بفطرة سليمة. والفطرة باللغة العربية تعني التفكير بطريقة طبيعية وعفوية، وهم يمتلكون هذه السمة الجميلة للغاية. فعندما نعرض عليهم شيئاً ما، فإنهم يفهمون القصد على الفور ويبدون حماساً لا مثيل له. إن التعامل مع مجتمع تفاعلي كهذا يعتبر أمراً جميلاً جداً. وقد عبّر صاحب السمو عن سعادته من تفاعلنا مع شباب محافظة العلا ومساعينا الرامية إلى تمكينهم من خلال ما قدمناه من برامج تدريب مهني أو أنشطة حرف وفنون لاقت إقبالاً مذهلاً، إذ تلقينا في يوم واحد 300 طلب للتسجيل في برنامج يضم 25 مقعداً. وما يزال التقديم مستمراً ليعكس ما يبديه الشباب من حماسة ورغبة كبيرة بالتفاعل البناء. فنحن اليوم على طريق التوسع والنمو لنخاطب شريحة جماهيرية أوسع.

بما أن محافظة العلا تتحول إلى مكان تراثي على الخارطة العالمية ومركز للإبداع الثقافي، ما هي الرؤية القادمة للخطة الخمسية القادمة؟

من وجهة نظري، إننا نطور العمل في محافظة العلا وفقاً لسلسلة من المراحل، وسنطلق كل عام مواقع أثرية وتجارب جديدة، كما سنعيد تجديد الوادي لإعادته إلى سابق عهده تحت عنوان وادي الضيافة حيث يمكن للناس زيارته والتفاعل مع تجاربه. وستخضع البلدة القديمة وقرية الجديدة المجاورة لها لعمليات إعادة ترميم وتجديد، كما سيتم تطبيق خطة رئيسية جديدة ضمن مدينة الحجر تتضمن تشييد متاحف وفنادق وباقة من التجارب، على أمل أن يرتكز ذلك على مفهوم التجربة الشاملة الذي ذكرناه سابقاً. وستكون التجربة تفاعلية على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والنفسية والبدنية تدعو إلى التفكير والتأمل المستمر في محاولة لفهم الذات. وبالطبع، ستتمكنون من قضاء أوقات ممتعه ومفيدة وملهمة في الوقت نفسه. وهذه هي روعة محافظة العلا، وميزاتها التي عرفناها بدءاً من اليوم الأول وحددناها كركيزة لإطلاق مشروعنا.

دكتور خالد عزام، شكراً جزيلاً على وقتك الثمين اليوم. كان لقاء ممتعاً للغاية.

شكراً جزيلاً لكم.